يُقال: عندما تجوع "الحسكة" تجوع سورية كلَّها، ومصدر هذه المقولة ليست من الأساطير والأفكار المؤسِّسة لها، بل واقعٌ تؤكَّده كميات القمح الكبيرة التي تنتجها هذه المحافظة، المصدر الأساسي لغذائنا، ولكن ذاك المحصول الناتج لا نحصل عليه بحركة سحرية، بل بعمليات معقَّدة وطويلة تهون أمام تعاون وإرادة الفلاح "الجزراوي"، فتستمر دورة حياة "القمح" لمدة تتجاوز تسعة أشهر، تنتهي بفرح الفلاحين بقدوم المواليد الجدد، هدية الأرض لأبنائها المكافحين.
موقع eHasakeh وثّق مراحل زراعة القمح بدءاً من مرحلة الجنين الأولى مع الفلاحين في قرى منطقة "رأس العين"، حيث التقى بدايةً السيد "عبد الباقي درويش"، من مزارعي قرية "عبد السلام غربي" الذي تحدّث لنا فقال: «نبدأ في الشهر التاسع من كلُّ عام بتهيئة الأرض الزراعية للفلاحة، وذلك بإزالة وجمع الأحجار التي قد تظهر فيها، وحفر التربة حوالي 30سم وتسَّمى "الفلاحة الصيفية" أو "العميقة"، وتسوية بعض الأمور القانونية أيضاً، بعدها تأتي مرحلة "التابان"، وهي تفتيت الكتل الترابية الكبيرة التي تظهر نتيجة الفلاحة العميقة، ذلك بواسطة آلة تسمى باسمها، في بداية الشهر العاشر نبدأ بعملية أخرى أكثر أهمية تسمى "الفلاحة الناعمة"، وهي تنعيم التربة وتسويتها بواسطة آلة تسمى بلغة الفلاحين "هارو"».
أما عن المراحل اللاحقة فتابع "درويش": «ما إن ننتهي من التهيئة حتى نبدأ بما يسمى عملية البذار، التي تكون بواسطة آلة الـ"هارو" أيضاً، حيث يتم ملء الصندوق المرافق لها بكمية مناسبة من بذور القمح، ومن ثم السير به في أرجاء قطعة الأرض حتى يتم توزيع ونثر البذور بشكل جيد، هنا لابد أن يتِّم اختيار أصنافها بشكل دقيق، حيث يجب فيها توافر شرط أن تكون ممتلئة وغير تالفة، وأن تكون ذات أحجام واحدة قدر
تعبئة البذور في صندوق الهارو.
الإمكان، وخالية من الإصابات الفيروسية وغيرها، غالبا ما يتم الاستعانة بالخبير الزراعي لاختيار أصنافها، وتحديد الكمية المناسبة لنثرها في التربة».
عمليات طويلة ومعقَّدة احتاج الحديث عنها أن نستعين بأكثر من فلاَّح، فكانت وجهتنا التالية قرية "الصالحية" فالتقينا الفلاح "فرهاد عبد الله" الذي شرح لنا بداية مرحلة "التخطيط" فقال: «تتم عملية التخطيط بواسطة آلة "الخطاطة" أو "المشل"، عقب البذار مباشرة بهدف تغطية ونثر البذور جيدا، وتحضيرها لمرحلة السقاية، حيث يتم تقسيمها إلى خطوط متساوية تساعد التربة في الاستفادة من الري، وتوفير وقت وجهد الفلاح، طبعاً يجب توافر مؤهلات ممتازة للشخص الذي سيقوم بتنفيذ هذه المرحلة، أهمها أن يكون قد عمل في السقاية ويفهم بعمل آلة "التراكتور" أو الجرَّار.
وتأتي مرحلة "التقطيع" مكمِّلة للمراحل السابقة، وتتم بواسطة "القطاعة"، بها يتم تقطيع الخطوط التي صنعناها إلى ألواح، تتجمع المياه فيها لتسهيل تناولها وشربها، بعد هذه الأمور كلها نختتم عملية تحضير "الطفل المدلَّل"، بـ"المشل" اليدوي، ومن خلالها يمكننا تجاوز الأعمال التي قد تكون غير مكتملة».
الفلاح "فارس الدخيل" من قرية "أم العصافير" تحدَّث عن عملية سقاية القمح وما يرافقها بالقول: «يجب البدء بالسقاية بداية الشهر 11، لكي لا نصل إلى فترة تشكّل الجليد، لأنها تؤخِّر عملية
نثر البذور
الإنبات، وتكون شاملة لكل المساحة المزروعة، بعدها نترك الأرض في مرحلة تسمى "السبات"، حتى منتصف شهر آذار وحسب كمية الأمطار الهاطلة، في الربيع يبدأ فصل العمل بالسقاية من جديد، ورَّش المبيدات للقضاء على الأعشاب الضارَّة، التسميد يأتي بعدها مباشرة، وفي هذه الفترة من المفروض أن يكون القمح قد دخل مرحلة "الإزهار" أو "الثمار"، قبل أن نصل إلى مرحلة "الفطام" في بداية الشهر السادس، أي قطع الماء عن القمح نسقيه بشكل جيد، وخاصة أننا نكون قد دخلنا في فصل الصيف الحار، والثمار تتطلَّب كميَّات وافية من الماء.
نترك المحصول لفترة 15 يوما لكي تنشف الرطوبة فيه، وتكتمل عملية النمو، بداية الشهر السابع أو قبلها بقليل، نجني المحصول بواسطة "الدرَّاسة" أو "الحصَّادة"، وتنتهي دورة حياة القمح بتسويقه إلى مؤسسة إكثار البذار».
المهندس الزراعي "آلان أحمد" قال: «زراعة القمح في "الحسكة" من الزراعات الشاقة جداً، وتحتاج إلى صبر لا متناهٍ، لأنها تأخذ وقتاً طويلاً حتى يتم الحصول على المحصول، تتجاوز المدة 9 أشهر تقريباً، يرافقها عدَّة مراحل لكل واحدة منها أهميتها، والفلاح "الجزراوي" اكتسب خبرات لا تقل عما تعلمناه، يبقى بعض الأمور خارج علمه، خاصة ما يتعلق منها بالآفات الفيروسية وكميات السماد المطلوبة، وبخصوص أهم
الفلاح "فارس الدخيل" أثناء مرحلة السقاية
الآفات التي تصيب القمح عندنا هي أمراض الصدأ، ثآليل القمح، موت البادرات، إضافة إلى الحشرات القارضة والجراد، وحشرة السونة، ناتجة معظمها من تغيّرات المناخ، والطرق الخاطئة للسقاية أحياناً».
يذكر أن "الحسكة" جاءت في مقدمة المحافظات السورية من حيث إنتاج القمح، وذلك حسب أحدث مسح أجراه المكتب المركزي للإحصاء لموسم 2009-2010، حيث بلغت المساحة المزروعة حوالي 652 ألف هكتار بإنتاج 1.1 مليون طن تقريباً، وتزرع بعلاً وسقياً، بصنفيه القاسي والطري.